تقسيم السودان هل يكون مقدمة لتقسيم مصر

+ حجم الخط -

د.عبد الآخر حماد

لم يعد يفصلنا إلا وقت قصير عن التاسع من يناير 2011 ،وهو الموعد المحدد للاستفتاء المزمع إجراؤه في جنوب السودان حول تقرير مصيره ،وقد بات في حكم المؤكد أن ذلك الاستفتاء ليس له إلا نتيجة واحدة ألا وهي انفصال الجنوب عن الشمال ، ويخطئ من يظن أن الاستفتاء يمكن أن يؤدي إلى استمرار الجنوب ضمن دولة السودان ،ولا حتى إلى الكونفدرالية التي دعا إليها وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط منذ أسابيع ، فالاستعدادات لإقامة دولة الجنوب تجري على قدم وساق حتى إنهم قد أعدوا منذ مدة نشيدهم الوطني باللغة الإنجليزية ،والدعم الأمريكي والصهيوني مستمر للجنوبيين من أجل إنشاء جيش خاص بهم ،وقد أعلن منذ أيام أن هناك حوالي ستة آلاف شرطي جنوبي سيتخرجون نهاية شهر ديسمبر 2010م من مركز للتدريب في جنوب السودان وأن أولئك الجنود هم الذين سبتولون توفير الحماية لعملية الاستفتاء والحفاظ على النظام في الجنوب .
وكانت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون قد أعلنت في سبتمبر الماضي أن انفصال جنوب السودان قد بات أمراً مؤكداً .
وفي محاضرة ألقاها آفي دختر مسؤول الأمن الداخلي السابق لدولة اليهود في سبتمبر 2008 ،ونشرت وقتها في العديد من الصحف والمواقع قال: (( السودان بموارده ومساحته الشاسعة وعدد سكانه يمكن أن يصبح دولة إقليمية قوية منافسة لمصر والعراق والسعودية ،والسودان شكل عمقاً استراتيجياً لمصر،وتجلى ذلك بعد حرب 1967م حيث تحول إلى قواعد للتدريب وإيواء لسلاح الجو المصري وللقوات البرية، وأرسل قوات إلى منطقة القناة أثناء حرب الاستنزاف،وكان لا بد أن نعمل على إضعاف السودان وانتزاع المبادرة منه لبناء دولة قوية موحدة، خصوصاً أن ذلك ضروري لدعم وتقوية الأمن القومي الإسرائيلي، وقد أقدمنا على إنتاج وتصعيد بؤرة دارفور، لمنع السودان من إيجاد الوقت لتعظيم قدراته....إن الصراعات الحالية في السودان ستنتهي عاجلاً أو آجلاً بتقسيمه إلى عدة كيانات ودول ،وكل الدلائل تشير إلى أن الجنوب في طريقه إلى الانفصال )).
ولست أشك في أن وراء تقسيم السودان مؤامرة صهيونية أمريكية استغلت ضعف موقف السودان وعزلته الدولية فلوحت لنظام الإنقاذ بأن ذلك الانفصال سيقتح المجال للتعاون الدولي -أي الأمريكي- مع السودان ،لكن بئست الصفقة أن يضحي حاكم مسلم بثلث أراضي بلاده في مقابل رضا دول الكفر عنه .
وللأسف سوف يذكر التاريخ أن الرئيس البشير هو أول رئيس سوداني يخضع للابتزازات الغربية فيفرط في جزء مهم من بلاده يحوي ربع مساحته الزراعية وبه سبعون بالمائة من ثروة السودان النفطية .
إن انفصال الجنوب معناه أن دولة ثالثة ستقاسم مصر والسودان نصيبهما في مياه النيل وهو النصيب الذي يواجه الآن تحديات خطيرة من دول المنبع.
إننا نعلم أن السودان لا يستهلك كامل حصته من مياه النيل ،وإنما هناك جزء كبير من نصيب السودان يتركه السودانيون بمحض رضاهم لمصر ،لكن الحال بعد انفصال الجنوب لن يبقى كذلك فسوف تكون هناك دولة ثالثة تريد حصتها كاملة ،وهي لن تتنازل عن جزء منه كما يفعل السودان اليوم .
بل إن مؤامرات المتآمرين لن تتوقف عند حد انفصال الجنوب عن الشمال ، ونجاحهم في ذلك سيدفعهم لمزيد من التقسيم لأراضي السودان الحبيب كما هو ظاهر من كلام مسؤول الأمن الصهيوني الذي سبقت الإشارة إليه فمن الجنوب إلى دارفور إلى جبال النوبة وكردفان إلى غير ذلك .
بل إننا لا نستبعد أن يؤدي تقسيم السودان إلى التفكير في تقسيم مصر ،وقد كان السودان ومصر بلداً واحداً ،وكان يجب أن يبقيا كذلك ،لكن ثوار يوليو تخلوا عن السودان وكان هذا من أفدح أخطائهم ، ونجاح القوم في تقسيم السودان اليوم قد يفتح شهيتهم بعد ذلك لتقسيم شقيقته الكبرى مصر ،وإن كان التفكير في تقسيم مصر مطروحاً منذ زمن بعيد ،وقد نشر الدكتور حامد ربيع رحمه الله في ثمانينات القرن الماضي سلسلة مقالات بجريدة الوفد حول المخطط الصهيوني لتقسيم مصر ،حيث بين أن ذلك المخطط يهف إلى تقسيم مصر إلى ثلاث دويلات: دويلة قبطية تمتد من جنوب بني سويف إلى جنوب أسيوط بامتداد غربي يضم الفيوم وبخط صحراوي طويل يربط هذه المنطقة بالاسكندرية التي يعتبرها هذا المخطط عاصمة للدويلة القبطية ،ودويلة نوبية تمتد من صعيد مصر حتى دنقلة من شمال السودان وعاصمتها أسوان،والدويلة الثالثة دويلة إسلامية تشمل الجزء الباقي من أرض مصر.
وكان الرئيس أنور السادات قد ذكر في بعض خطبه أن البطريرك كيرلس السادس بابا الأقباط السابق حينما زار الحبشة في ستينيات القرن الماضي عرضوا عليه هناك المساعدة في إقامة دولة قبطية مستقلة في مصر تكون عاصمتها أسيوط ،ولكن البابا لم يستجب لذلك العرض بحسب رواية الرئيس السادات .
إن مما يشعرنا بأن شبح تقسيم مصر ليس بالأمر المستبعد ما نراه من تصرفات غير مسؤولة تصدر من متعصبة الأقباط في مصر ،وكأنما يراد للكنيسة الأرثوذكسية في مصر أن تكون دولة داخل الدولة بل فوق الدولة ،حتى إنه لما مارست الجهات الأمنية والقضائية حقها القانوني في حبس مثيري الشغب في حادث العمرانية قامت قيامة متعصبي الأقباط مع أن مخالفة أولئك المحبوسين للقانون بينة واضحة ،وارتكابهم للعديد من الجرائم ظاهر للعيان ،والأغرب من ذلك أنه بمجرد أن لوح الأنبا شنودة بأنه سوف يعتكف في أحد الأديرة احتجاجاً على عدم الإفراج عن أولئك المحبوسين سارع النائب العام بالإفراج عن سبعين منهم ،ولا شك أن الباقين سيفرج عنهم أيضاً وسوف تمر الجريمة كما تعودنا دون عقاب.
وقد حدث مراراً أن تحدت الكنيسة المصرية أحكام القضاء وأبت الانصياع إليها ،ألم تحكم المحكمة الإدارية العلياً حكماً نهائياً يلزم البابا بالتصريح للمطلقين بالزواج الثاني ومع ذلك تحدت الكنيسة هذا الحكم ورفضت تنفيذه ؟
وقد قرأت خبراً غريباً في جريدة المصري اليوم يوم 21/11/ 2010 الموافق 14/12/ 1431هـ نصه : (( استقبل البابا شنودة الثالث-بابا الإسكندرية بطريرك الكرازة المرقسية- مساء أمس الأول الأنبا باولس، بطريرك الكنيسة الإثيوبية القبطية، في زيارة ودية لتهنئته بعيد جلوسه التاسع والثلاثين ،ونظمت الكاتدرائية حفل استقبال للبطريرك الإثيوبي،حيث وقفت الكشافة الكنسية على الصفين أثناء دخول البطريرك وعزف الكورال النشيد الوطني للكنيسة "كنيستي القبطية.. كنيسة الشهداء" ،والذي يعزف عند استقبال البابا لكبار الأساقفة والبطاركة )).
إنني أتساءل كيف تسمح دولة لبعض رعاياها بأن يكون لهم نشيد خاص بهم ،ومراسم معينة يستقبلون بها زوارهم ،وهل يستطيع شيخ الأزهر مثلاً أن يفعل شيئاً كهذا ؟
لقد علم الجميع بما حدث من الأنبا بيشوي من تشكيك في بعض آيات القرآن الكريم ،ومع ذلك مرت فعلته تلك بغير مسائلة ،ولا حتى اعتذار منه ،وخرج الأنبا شنودة على شاشة التلفاز يحاول بأسلوبه المعروف أن يهدئ من مشاعر المسلمين أو يطيب خواطرهم -كما يقال- لكنه لم يعتذر أبداً عما بدر من الرجل الثاني في كنيسته ،ولنا أن نقارن بين هذا الموقف وموقف الأزهر وشيخه السابق حين وزعت مجلة الأزهر مع عددها الصادر في ذي الحجة 1430 كتيباً للدكتور محمد عمارة يرد فيه على شبهات وردت في كتاب لشخص نصراني يكذب القرآن الكريم ويتجنى على رسولنا الكريم ،ومع أن هذا الكتيب كان مجرد تقرير علمي هادئ حول ذلك الكتاب الذي تم ضبطه من قبل أجهزة الدولة المختصة ،ثم قامت تلك الأجهزة بتحويل الكتاب إلى مجمع البحوث الإسلامية للإفادة عن رأى الإسلام فيه ،إلا أن ثائرة المتعصبين من الأقباط قد ثارت فنظموا المظاهرات ضد الدكتور محمد عمارة ،فما كان من شيخ الأزهر السابق إلا أن أمر بسحب المجلة وهديتها من الأسواق ،ثم خرج علينا أمين مجمع البحوث الإسلامية باعتذار صريح للأقباط عن توزيع ذلك التقرير .
إن ما أشرنا إليه من المواقف والأحداث -وأشباهه كثير - إذا لم يُنتبه إلى خطورته الآن ،فإنه ليس ببعيد أن نرى من يطالب بتقسيم مصر ،وربما بما هو أكثر من ذلك ،إذ علينا أن نعيَ جيداً ما وراء مقولة : إن المسلمين مجرد ضيوف على أرض مصر ،وأن قائلها لم يعتذر عنها ولم يفسرها بتفسير ينم عن حسن نيته من ورائها .
إن المؤامرات على بلادنا تجري على قدم وساق ،وإلى المتشككين في ذلك أسوق نص كلام الجنرال عاموس يادلين الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية في الدولة العبرية الذي قال -وهو يستعرض إنجازاته خلال مدة رئاسته لذلك الجهاز- : (( أنجزنا عملاً عظيماً للغاية في السودان ،لقد نظمنا خط إيصال السلاح للقوى الانفصالية في الجنوب ،ودربنا العديد منها وقمنا أكثر من مرة بأعمال لوجستية لمساعدتهم ،ونشرنا في الجنوب ودارفور شبكات رائعة وقادرة على الاستمرار بالعمل إلى ما لا نهاية ،ونشرف حالياً على تنظيم الحركة الشعبية وشكلنا لهم جهازاً أمنياً استخباراتياً قادراً على حمايتهم وإنجاح مشروعهم بإقامة دولة ذات دور فاعل في المنطقة )) إلى أن قال بحسب ما جاء في موقع المختصر للأخبار بتاريخ 28/10/2010م : (( أما في مصر الملعب الأكبر لنشاطاتنا فإن العمل تطور حسب الخطط المرسومة منذ عام 1979، فلقد أحدثنا الاختراقات السياسية والأمنية والاقتصادية والعسكرية في أكثر من موقع ،ونجحنا في تصعيد التوتر والاحتقان الطائفي والاجتماعي لتوليد بيئة متصارعة متوترة دائما ومنقسمة إلى أكثر من شطر في سبيل تعميق حالة الاهتراء داخل البنية والمجتمع والدولة المصرية لكي يعجز أي نظام يأتي بعد الرئيس حسني مبارك في معالجة الانقسام والتخلف والوهن المتفشي في مصر)).
ونحن نسأل الله تعالى أن يحفظ بلادنا وسائر بلاد المسلمين من مكر الماكرين وتآمر المتآمرين ،لكن الواجب علينا أن ننتبه إلى تلك المؤامرات جيداً حتى لا يأتي علينا يوم نقول فيه : لقد أكلنا يوم أكل الثور الأبيض .
ألا قد بلغت اللهم فاشهد .

كتابة تعليق